قتل، تعذيب، تنكيل بالجثث، مجازر، مسلحون، انقلاب مسلح، مقاومة وغيرها من الكلمات التي تُستخدم لتوصيف حال حرب، ما إن توضع في محركات البحث على الإنترنت (مع إضافة كلمات مثل لبنان وبيروت) حتى تتدفق مئات المواقع الإلكترونية التي تشفي نهم من يبحث عن أخبار خارج إطار الانتقائية التي باتت متحكمة بوسائل الإعلام اللبنانية في الآونة الأخيرة.
لم يكن لعالم الإنترنت وجود لبنانياً وعربياً إبان الحرب الأهلية التي عصفت في لبنان بين عامي 1975 و1990. وحينها، اقتصر الإعلام على التلفزيونات والصحف وبعض الإذاعات (خصوصاً الـ «أف أم») التي لا تزال تحتفظ بالأرشيف من تلك الأيام، استرشاداً بالمثل اللبناني الشهير «تنذكر وما تنعاد»، الذي صار من شعارات رفض العودة الى الحرب وأحوالها في بلد الأرز.
وفي الأحداث الأخيرة التي هزّت لبنان، والتي يرى كثيرون أنها شرارة حرب لن تلبث أن تمتد إلى كل ما يحيط بها «فتحرق الأخضر واليابس»، ظهرت مواقع إلكترونية تنهض بمهمة مواكبة الأحداث لحظة بلحظة، إلى جانب الوسائل الاعلامية التقليدية.
كم عمرك لتشاهد حرباً؟
كم عمرك لتشاهد حرباً؟ استعمال هذه الكلمات في موقع «يوتيوب» You Tube، المخصّص لتبادل الأشرطة بين جمهور الإنترنت، يؤدي الى قائمة بأشرطة فيديو صوّرت بعض الأحداث التي جرت في أماكن محددة مثل حلبا وعاليه. ويسأل موقع «يوتيوب» قاصده أن يصرح عن عمره وتأكيد أنه فوق الثامنة عشرة من العمر، موضحاً أن الأشرطة عن الأحداث البيروتية الأخيرة «تحوي مشاهد عنيفة». واستطراداً، يمكن المراوغة بسهولة، ووضع أي رقم في خانة تاريخ الميلاد. وبالنقر على عناوين الأشرطة، تظهر على شاشة الكومبيوتر مشاهد قتل وتنكيل وعبارات شتم. ربما لا تبدو المشاهد غريبة على مشاهدي التلفزيونات اللبنانية والعربية التي تبث ما يُشابهها يومياً (العراق وغزة وافغانستان وباكستان وغيرها)، في مشاهد فيها جثث متراكمة فوق بعضها البعض. إلاّ أن الفارق «البسيط» والخطير في آن معاً، أن الصور تُبث جرّاء أحداث لبنانية داخلية، وتحمل نُذر حرب دموية مقبلة.
وعلى «يوتيوب» ثمة أشرطة تعرض مشاهد تُظهر ملثمين يجوبون شوارع بيروت مدججين بالأسلحة، يخربون ويستخدمون الرصاص العشوائي، ويحرقون ويرتكبون ما لا يحصى من الجرائم. وتبدو الأشرطة وكأنها ذاكرة رقمية للحدث البيروتي الدامي، وهي متحرّرة من سطوات الرقابة، وقابلة للبقاء آجالاً طويلة.
في العالم الرقمي، يفتح الفضاء الافتراضي آفاقه للجميع، فتضج الألياف الإلكترونية بالمشهديات المتناقضة والمتصارعة. لم يعد مفيداً قطع بث محطة تلفزيونية ما من أجل إخفاء الرأي الآخر أو تغييب الصورة المقابلة. تعرض الإنترنت الأحداث التي تدور في شوارع لبنان بالصوت والصورة والكلمات المطبوعة، فيرى الجميع ويسمع الكل ويقرأ «من به صمم».
ومرة أخــرى أثبت الإعلام الرقمي أنه لا يقل أهمية عن أي وسيلة إعلامية أخرى، وربما صار أهمها، في حال استطاع من يســـتخدمه على حمايته وتطويعه.
غياب قناتي «المستقبل» وعودتهما مؤشر الى علاقة جديدة بين التلفزيون والاعلام الرقمي
ولجأت محطات تلفزيونية تعرضت إلى محاولات منع بثها في عدد من المناطق، مثل «أو تي في» و «المنار» والـ «أن بي أن» إلى الاستعاضة عن ذلك من خلال مواقعها الالكترونية. ووقع تلفزيون «المستقبل» الذي تعرض إلى القمع المباشر والإقفال (ثم عاودت البث)، في خطأ جوهري، إذ وضع مركز موقعه الالكتروني، حيث خوادمه وحواسيبه الأساسية، في المكان نفسه الذي ينطلق منه البث المتلفز.
وتالياً، فما أن خرّبت الأسلحة والنيران مبنى التلفزيون وكابلاته وأسلاكه، حتى حُكم على الموقع الاكتروني بالإعدام. وأُلقيت مهمة نقل الأخبار على عاتق موقع «14مارش.أورغ» 14march.org (الناطق الكترونياً باسم تحالف قوى الموالاة) الذي اعتاد تلفزيون «المستقبل» أن يُعلن عنه في شريط أخباره.
ولم يغيّر الموقع المخصص لـ «تيار المستقبل» (الذي يقوده النائب سعد الحريري) «فيوتشر موفمانت.أورغ» futuremouvement.org من عاداته، فبقي خارج سباق الأخبار العاجلة، الذي خاضت فيه مواقع أحزاب الموالاة كحزب «الكتائب اللبنانية» (يرأسه النائب أمين جميل) «كتائب.أورغ» kataeb.org والقوات اللبنانية (يتزعمه سمير جعجع) «ليبانيز فورسز.كوم» Lebanese-forces.com والحزب التقدمي الاشتراكي (بزعامة النائب وليد جنبلاط) psp.org.lb «بي أس بي.أورغ.أل بي» وغيرها.
ومارست تلك المواقع دورها كوسائل إعلامية فعّالة تبث الأخبار المتتابعة وترصد الأحداث عن كثب، وكذلك حافظت على دورها كمواقع حزبية.
وفي المقابل، استخدم «حزب الله»، المعروف بتمكّنه من وسائل الاعلام والدعاية، مجموعة من المواقع الالكترونية مثل «حزب الله.تي في» hizbollah.tv و»وعد.أورغ» wa3ad.org . ويمكن الدخول إلى هذه المواقع إما مباشرة عبر هذه العناوين أو باستخدام صلات الكترونية متوافرة في مواقع أخرى مثل «مقاومة.كوم» mouqawama.com الذي يعيدك إلى الموقع الرئيسي لـ»حزب الله»، وموقع «منار تي في.كوم.آل بي» manartv.com.lb التابع لتلفزيون «المنار»، التابع لـ «حزب الله». وغرّدت «حركة أمل»، التي يقودها رئيس مجلس النواب نبيه بري، خارج سرب أحزاب المعارضة. فلم يطرأ تغيير على موقعها الالكتروني «أمل موفمانت.كوم» amal-mouvement.com. وفي المقابل، اهتمت بقية المواقع الالكترونية التابعة لتحالف المعارضة بالمتابعة السريعة للأحداث، وخصوصاً مواقع «تيار المردة» (يقوده الوزير السابق سليمان فرنجية) «المردة.نت» el-marada.net و «الحزب السوري القومي الاجتماعي» «أس أس آن بي.نت»ssnp.net ، و «المرابطون» (وهو تيار ناصري) «المرابطون.كوم» almourabitoun.com وحزب «التيار الوطني الحر» (يقوده النائب ميشال عون) «تيار.أورغ» tayyar.org، الذي أجّل بثّ حلّته الجديدة والتي كانت مقررة في التاسع من أيار (مايو) الجاري، بسبب الأحداث الطارئة على الوطن. وتأجيل الحلّة الجديدة للموقع لم يثنه عن الإعلان مرة أخرى، بعد تغطيته حرب تموز (يوليو) عام 2006، أنه حقق رقماً قياسياً في عدد زوّاره بعد يومين على بدء الأحداث. وأعلن أن عدد زواره تجاوز الـ 120000 زائر أجروا أكثر من 400000 زيارة في يوم الثامن من أيار (مايو) الجاري.
الإعلام الرقمي بديلاً
تعتبر الأرقام التي أبرزها موقع «تيار.أورغ» إشارة واضحة على توجّه القرّاء والجمهور في شكل عام نحو المادة الإعلامية الرقمية.
وفي مؤشر مماثل، لم تغِب المنافسة ولو لدقيقة عن هذه المواقع. وسرت إشاعات كثيرة عن تعرض بعضها، خصوصاً موقعي «القوات اللبنانية» و «ناوليبانون» nowlebanon لمحاولات اختراق عبر هجمات القراصنة الالكترونيين (الهاكرز). وأكد الأول حصول القرصنة التي أوقفته ساعات.
ومن جهة أخرى، تمكّن بعض «الهاكرز» من التسلل إلى الموقع الشبكي لجريدة «الديار» (المقرّبة من المعارضة) ووضعوا عليها صوراً معادية للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله. وترجم موقع «الحزب الشيوعي اللبناني» (يتزعمه خالد حدادة) «ال سي بارتي. أورغ» lcparty.org موقف حزبه الرافض لأسلوب الطرفين من «موالاة و «معارضة»، بأن غاب كلياً عن الأحداث المتسارعة.
واكتفى الموقع بتوجيه دعوة الى «عمال العالم المضطهدين أن يتحدوا»، بعدما حذّر أمينه العام خالد حدادة من مخاطر التصعيد السياسي والأمني. واكتفى الموقع بالتعليق على الأحداث عبر نشر مقال باللغة الفرنسية لعضو المكتب السياسي في الحزب ماري الدبس تناول أسباب الأحداث والحلول المفترضة.
أمّا الموقف السياسي الأبرز فكان على موقع الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي وضع عبارة «انقلاب إيراني في بيروت» عنواناً للحدث.
وانفرد هذا الموقع بتخصيص عنوان بارز لإعادة بث قناتي تلفزيون «المستقبل»، مذيلاً الصورة بعبارة «الحمدالله على السلامة».
غالباً ما تكرّس أحداث من هذا النوع أدوراً تاريخية لمن يعاصرها. وهكذا، ساهمت حدّة الحدث في بروز مواقع شبكية واختفاء أخرى. ومن أبرز المواقع التي غابت، وتدثّرت بعبارة under construction (إعادة بناء)، الموقع الشبكي الناطق باسم «اليسار الديموقراطي» yassardimocrati.com «يسار ديموقراطي.كوم» الذي غاب عن الانترنت، وبدا كأنه يتوازى مع الاختفاء النسبي لرئيسه النائب الياس عطا الله عن الساحة السياسية الملتهبة. ومن أهم المواقع التي برزت على الساحة الالكترونية «المحلية»، إذا جاز التعبير، موقع «النشرة.كوم» el-nashra.com الذي يحتل ساحة بارزة على الشبكة الالكترونية منذ فترة، من دون أن يُبرز ميوله السياسية في شكل واضح. وعلى رغم أن بعض المعطيات تقول إن هذا الموقع مقرّب من النائب السابق ميشال المر، يظهر من الأسلوب الذي يعتمده الموقع أنه على مسافة شبه متوازنة من الجميع، إذ غابت عن نصوصه التوصيفات التي تعبر عن الانحياز الى هذا الفريق أو ذاك.
ومال موقع «ناوليبانون» الذي «يتجايل» إلكترونياً مع موقع «النشرة»، لإبراز ميله لأحزاب الموالاة.
توصيفات مقيتة ومُتناقلة
واستخدمت مختلف المواقع الإلكترونية اللبنانية كلمات مثل ميليشيا، قتيل، شهيد، اعتداء، انقلاب، اغتصاب، لوصف الحدث البيروتي الأخير، مع تغيّر الموصوف من موقع إلى آخر. فعلى المواقع التابعة لأحزاب المعارضة، يعطى وصف «الميليشيا» للأحزاب الأكثرية الحاكمة، التي توصف بـ «السلطة»، وخصوصاً «تيار المستقبل» و «الحزب التقدمي الاشتراكي». أمّا على مواقع الأحزاب الموالية، فالميليشيا هي «حزب الله» و»الحزب السوري القومي الاجتماعي» بشكل خاص.
ويختلف المعتدي والمنقلب والمغتصب بحسب الوجهة التي يتبع لها الموقع الإلكتروني. بعض هذه المواقع تركت «الهواء» للتعليق، بمعنى أنها تركت مجالاً واسعاً لنشر ما تنتقيه من أراء القراء وتعليقاتهم على الأخبار والمقالات الواردة. ومن أبرز المواقع التي مارست هذه اللعبة الاعلامية، موقع «ناوليبانون» الذي كانت تعليقات قرائه بمعظمها مؤيّدة لآراء كتّابه! ولم يعرض سوى قلة من الآراء التي عارضت ميوله «بلطف»، بمعنى أنها لم تأخذ طرف المدافع عن قوى المعارضة ولكنها أعربت عن استيائها من مجمل المشهد السياسي كما ألقت اللوم على الجميع.
ولم يكتف روّاد الانترنت بالمواقع التي تمنحهم هامشاً من الحرية، تحده مواقف ترسم حدود الموقع نفسه. فلجأوا إلى المدوّنات الالكترونية «بلوغز»، وإلى مواقع التعارف الاجتماعي مثل «فايس بوك» Face Book، للتعبير عمّا يختلج في صدورهم من مشاعر حيال ما يجري. وأدى «فايس بوك» الذي يلقى رواجاً مميزاً في أوساط الشبيبة اللبنانية منذ انطلاقته، دور «حامل الأمانة». وعرض الموقع الكثير من الأشرطة التي «حملها» من موقع «يوتيوب».
وتالياً، تمكّن كثيرون من منتـــسبي «فايســبوك» من الحصول على أشرطة عن القتال في شوارع بيروت، خصوصاً تلك التي أعرضت التلفزة عن بثّها.
وبرز تعاطف كبير مع موقف الزميلة سحر الخطيب، التي ظهرت في شكل مؤثر في حلقة من برنامج «كلام الناس» (يعرضه تلفزيون «ال بي سي أي» ويقدمه الزميل مارسيل غانم) بعيد توقيف «تلفزيون المستقبل».
وفي المقابل، تبادل جمهور «فايس بوك» الحقد والتصعيد والوعود المتبادلة بالانتقام، على صفحاته وجدرانه. وبدت ضعيفة الأصوات التي نادت بـ «العض على الجروح» و «محاولة المضي»، والتي حاولت عبثاً اختراق الصفوف المتراصة والمتواجهة بعضها ضد البعض. وباختصار، فعلى الإنترنت، كما في أحوال لبنان فعلياً، حضر الكثير من الكلام المتقاتل، وغاب... الحوار!